فريدة النقاش 
2009 / 8 / 13 

«لن أقبل عفوا رئاسيا إلا إذا تزامن مع إلغاء القوانين المهينة للمرأة».
هكذا قالت الصحفية السودانية «لبنى أحمد حسين» التي تواجه عقوبة الجلد بسبب ارتدائها بنطلونا اعتبره قائد الشرطة الذي ألقى القبض عليها أنه يقع تحت بند «أفعال فاضحة» وقدمها للمحاكمة طبقا لقوانين يسمونها قوانين الشريعة! وقد بدأت وقائع محاكمتها فعلا قبل أيام في الخرطوم وسط اهتمام إعلامي واحتشاد حقوقي ونسائي كبير.
وحين ألقي القبض على «لبنى» لم تكن وحدها وإنما كانت معها فتيات أخريات، لكن قضيتها هي اشتهرت لأنها صحفية، وقد رفضت «لبنى» أن تتلقى هي وحدها معاملة مميزة مثل الخروج من القضية بعفو رئاسي، بل أصرت على ضرورة إلغاء المادة 152 من قانون العقوبات السوداني التي تتحدث عن «أفعال فاضحة» مع مواد أخرى تهين النساء وتحط من كرامتهن.
وبمقتضي هذا القانون تم جلد عشرات الآلاف من الفتيات من قبل ولم يسمع بهن أحد كما أن هناك استهدافا لكل النساء السودانيات طبقا لهذه القوانين التي تنتمي للعصور الوسطى.
ويستحق الموقف الشجاع الذي اتخذته الصحفية صاحبة عمود «كلام رجال» كل مساندة وتضامن، بعد أن اختارت أن تتجاوز عن سلامتها الشخصية لتحول المسألة إلى قضية رأي عام، قررت هي أن تطرح عليه مسألة وضع المرأة ومكانتها في ظل القوانين التي يسميها حزب المؤتمر الحاكم «قوانين إسلامية».
وكانت هذه القوانين التي صدرت في ظل الدكتاتور الراحل «جعفر النميري» وحملت عنوان «قوانين الشريعة الإسلامية» قد تسببت في مآس كثيرة علي المستوي السياسي والاجتماعي والاقتصادي، خاصة بعد الانقلاب الذي جاء إلي الحكم بحزب المؤتمر الوطني متحالفا مع حسن الترابي وحزبه، وأدت إلى تعطيل النمو الديمقراطي الذي حمل طابعا شعبيا اجتماعيا عميقا لانتفاضة الشعب السوداني الباسلة عام 1985، وقد أفضت هذه الانتفاضة للإطاحة بالدكتاتورية، ولكن أسبابا انتهازية وعملية حالت دون الحكومة المنتخبة ديمقراطيا في ذلك الحين برئاسة «الصادق المهدي» وبين إلغاء هذه القوانين السيئة السمعة، والتي طالما أعلن «المهدي» نفسه أنه لا يوافق عليها.
وأصبحت هذه القوانين هي السلاح الرئيسي الذي أشهره النظام القمعي الفاسد للجبهة القومية في وجه كل القوي الديمقراطية في البلاد حين بادر إلى حل النقابات والاتحادات الطلابية وملاحقة الأحزاب ودفعها للعمل السري.
وكعادة كل النظم والمنظومات التي تحول الدين إلي سياسة وتدعو لإنشاء دولة دينية - وبعضها يحمل السلاح الآن داعيا لمثل هذه الدولة - كعادتها جميعا فإن محاصرة النساء وملاحقتهن وقمعهن هو أحد الأسس الراسخة للعالم الذي يسعون إلي فرضه من «طالبان» إلي الجماعة الإسلامية في الجزائر.
كذلك تراهن هذه النظم علي غياب وعي الجماهير وتفرض عليها حالة ظلامية تطمس بها معالم الصراع الطبقي والعلاقات الاجتماعية، وتحول هذا الصراع إلى مسارات أخرى بعيدة عن هذا الجذر الأصلي لكل صراع.
وفي السودان حيث المجتمع المتعدد الأعراق واللغات والديانات والثقافات، وبعد قمع السياسة ووأد الحوار أخذ هؤلاء الذين نصبوا من أنفسهم حراسا للسماء، والذين سرعان ما انشقوا هم أنفسهم وتبادلوا الاتهامات أخذوا يغرقون المجتمع السوداني في قضايا التدين الشكلي.
وليست حالة «لبنى» إلا نموذجا للبشاعة والتخلف الفاضح، ويسعى القائمون على الأمر الآن إلى إخفاء عجزهم الكامل عن التوصل لحلول عقلانية للقضايا الكبرى التي تواجه السودان من التفكك القومي للبؤس الاجتماعي للحريات الديمقراطية بعد أن لم يبق لهم سوى القمع الصريح الذي يلبسونه رداء دينيا، ويحاولون عبره التغطية على الفساد الشامل.
وما لا يعرفونه هو أن السودان تغير وأن الثمن الباهظ الذي دفعته القوى الديمقراطية مما فيها الحركة النسائية التحررية التي واصلت العمل في أحلك الظروف وساندها شيخ جليل هو «محمد محمود طه» الذي أعدمه نظام النميري الديكتاتوري لأنه قدم قراءات متقدمة وإنسانية للشريعة الإسلامية.. أن هذا الثمن قد أثمر ولم تضع جهود المناضلين علي كل المستويات السياسية والثقافية والنسوية هباء.
وها هو رأي عام سوداني قوي يهب لمساندة «لبنى» وزميلاتها وهو يرفع في وجه القمع راية الحريات الديمقراطية وحركة حقوق الإنسان التي طالما نادت بإلغاء العقوبات البدنية التي تشكل سبة في جبين البشرية وهي تسعي للتحرر من كل أشكال العبودية والإذلال، والعقوبات البدنية هي مظهر أخير لها.
وليست «الأفعال الفاضحة» هي ما فعلته «لبنى»، أو الصحفيون الذين جرى قتل بعضهم أو إغلاق صحفهم أو حبسهم لأنهم دافعوا عن الحريات، أو النقابيون والحزبيون الذين كافحوا باستماتة من أجل حماية منظماتهم من البطش.. وإنما هي أفعال النظام الحاكم الآن في السودان الذي فقد كل مشروعية منذ زمن طويل وبقي أن يرحل.


http://www.c-we.org/ar/show.art.asp?aid=181161