أما كيف يتم التحرش وما هي الأسباب والخلفيات والدوافع التي تقف وراءه؟ وهل يقتصر على الرجال أم أن النساء أيضاً يتحرشون بالرجال؟!. هذا ما يحاول تحقيقنا الإجابة عليه من خلال رصد بعض حالات هذه الظاهرة ممن تعرض لها مباشرة.. إلى جانب استطلاع آراء الناس في هذه الظاهرة غير المطروحة كثيراً في إعلامنا، واستعراض بعض المقالات الهامة التي تناولتها:
تقول مها الطالبة الجامعية العشرينية: كلما خرجت من المنزل أشعر بعيون الرجال تلاحقني وتنظر إلى جسدي أو إلى صدري.. وأحياناً يقلبون لي شفاههم علامة على رغبتهم في التقبيل وممارسة الجنس. ولا يمكنني أن أستثني أي رجل.. بل أقول إن من المستحيل أن يمر بي رجل إلا وينظر إلي منذ أن أكون بعيدة عنه حتى مروري بجانبه.
هذا الرأي صحيح مع تراجع قيمة المرأة وانتشار الفضائيات الإباحية وفراغ الحياة العامة من التعبيرات السياسية والاجتماعية الجادة والهادفة، وبالتالي تحول الرجل إلى كائن جنسي!.
جميع الرجال شبقون!
وتؤكد ثناء ـ 35 عاماً ـ موظفة في إحدى الشركات العامة ـ أنها كلما صعدت إلى السرفيس أو الميكرو يسارع أحد الذكور إلى الجلوس جانبها، ويبدأ يمد يده إلى جيوبه أملاً في ملامستها.. وتراه يخرج النقود تارة والموبايل تارة أخرى.. ثم يكرر وضعه وإعادة إخراجه عدة مرات.. وأحياناً يتجرأ فيقرّب يده إلى يدها أو يلمس فخذه بفخذها ـ كما قالت ـ ولا يضيّع ميلة للسرفيس إلا ويميل نحوي عدا عن محاولة فتح حديث عن العمل أو الجامعة أو الجو أو غير ذلك…
ولدى سؤالها عن سبب ذلك.. ردت بأن الرجال جميعهم شبقون ويرغبون في الحصول على أية امرأة.. فالمهم لديهم إقامة علاقة جنسية.
ربما كان ذلك صحيحاً فالرجال بيولوجياً أكثر شبقاً من النساء، ولكن الموضوع متعلق بأن مجتمعنا الذكوري وتقاليدنا وعاداتنا تعطي الرجل الحق بفعل ما يشاء.. ذلك أن للرجال كل الحق بأي امرأة.. وبالتالي فهم لا يتحملون أي مسؤولية.. وبالمقابل تتحمل المرأة كامل المسؤولية.. وربما كان الفقر وانعدام العمل من بين الأسباب التي تجعل الرجال غير قادرين على فتح منزل للزواج.. ما يدفعهم إلى هذه التصرفات.
الحجاب والبنطلون
وترى رجاء ـ 44 عاماً مدرسة محافظة ـ أن الرجال يتحرشون بالنساء لأنهن أصبحن لا يسترن من أجسادهن شيئاً وربما يكون اللباس إغراء خالص سواء من حيث شكل الحجاب أو البنطلون أو الماكياج.. كلها عوامل تجذب الرجل وتدفعه لملاحقة النساء ومحاولة التحرش بهن.. وقد يكون عدم العمل والإباحية المنتشرة في الفضائيات والكليبات الغنائية التي باتت أقرب إلى الدعارة سبباً إضافياً.. لكنها تؤكد أن ملابس النساء قد تكون العامل الأساسي لهذه التحرشات.
لا يشك أحد أن اللباس من أهم معايير انجذاب الرجل للمرأة.. وهو كذلك من أهم أسباب التحرش.. فماذا يعمل الرجل الذي لا يستطيع إقامة علاقة صحيحة في مجتمعاتنا رغم أن أدياننا تحرص على منع ذلك بصورة شبه كلية، حيث قائمة الممنوعات تدور معظمها على القضايا الجنسية.. وتحويل العلاقة مع الجنس الآخر إلى علاقة طاهرة من خلال مؤسسة الزواج.. وقد لعبت كذلك القنوات الإباحية دوراً كبيراً في سلعنة المرأة أو جعلها مركز للمتعة الجنسية للرجل سواء بالكلام أو بغيره.
الكلمات الجميلة والرقيقة
تشير رباب ـ 28 عاماً طالبة ماجستير في علم الاجتماع ـ إلى أن هناك نوعاً من التحرش لا يظهر على أنه تحرش.. وهو الكلمات الجميلة والرقيقة التي يقولها الشاب للفتاة في الجامعة أو على طريق المدرسة أو الموظف لزميلته في العمل أو صاحب المعمل لسكرتيرته.. وتضيف أن تكرار ذلك بصورة مستمرة هو ما يخلق لدى الفتاة شعوراً حقيقياً بأن صاحب هذه الكلمات معجب بها، فيكون عندها قد أوقع الفتاة في علاقة معه، محاولاً إقناعها بأنها هي التي قبلت بالعلاقة ولم تتمُ عبر الأساليب والدهاليز التي يسلكها الذكور… وتؤكد رباب أن الفتاة أيضاً قد تتحرش بالرجل عبر نظرة خاصة من عينيها أو عبر لباسها!. طبعاً هذه الحالات كثيرة الانتشار وهي تؤدي بالفعل لعلاقات جنسية أو عاطفية غير جادة أو مسؤولة وتفتقر لأي آفاق مستقبلية.. وقد تستمر لفترة معينة نتيجة حاجة الفتاة للعمل أو نتيجة تورطها العاطفي مع ذلك الشخص. مع ذلك لا يمكن أن تسمى هذه الحالة غير تحرش جنسي، فهي علاقة قائمة على الكلام الجميل والمعايشة في العمل، وهو ما يترافق مع مشاعر حقيقية عند الأنثى بحكم تركيبتها العاطفية.. أما لدى الرجل فإن الهدف هو إرضاء شهوة من خلال علاقة جنسية يضيفها إلى سجلات فتوحاته المتكررة.. ولأن تلك العلاقات ليست مرتبطة بخطط للزواج فهي علاقة تحرش جنسي بالتحديد.
نظرة الرجال للمرأة السافرة!
ترى المدرسة والباحثة الفلسفية ميرنا ـ 34 عاماً ـ أن تزايد الكلام عن الأخلاق يتناسب طرداً مع التحرشات الذكورية بالنساء.. وهذا برأيها تعبير عن ثقافة ثنائية في كل مجالات المعرفة والحياة اليومية، وقد يكون سبب التحرش الوضع الاقتصادي المتردي إلى جانب ثقافة الإعلام والفضائيات والانترنت التي يظهر الكثير منها المرأة كسلعة وموضوع جنسي.. وهناك أيضاً ـ بحسب ميرنا ـ التعصب الديني الذي يجعل من الأم والأخت والابنة محرمات.. وغيرها محلل تماماً. إلا أن الأمر يزداد كارثية حين تكون المرأة سافرة.. فقد ينظر لها الكثير من الرجال على أنها غير شريفة ويحللون لنفسهم ولغيرهم كل طرق التحرش الرديئة بها.. من الكلام الجنسي والملامسة والحركات الجنسية والملاحقة في الشارع… حتى يتعرف على مكان إقامتها.. وقد يكون ذلك تعويضاً عن فتوحات حقيقية في العلم والسياسة والعمل بفتوحات جنسية.. من يدري؟!.
وتضيف ميرنا أن ثقافتنا الذكورية تعتبر أن المرأة موضوع إغراء جنسي وهي شهوانية وفتنة وناقصة عقل ودين.. ويكمل ذلك القانون الذي لا يحمي المرأة كما ينبغي.. وإن اشتكت المرأة تصبح هي الملامة والمتسبّبة.. حتى ولو لم تكن قد أغرت من تحرش بها، وتشير إلى أن المرأة قد تتحرش بالرجل عبر إغرائها له ولكنها لا تجرؤ على الإفصاح أو التعبير عن ذلك كما يفعل الرجل!
الظاهرة منتشرة في مصر
تقول الكاتبة اللبنانية دلال البزري في مقال لها بجريدة الحياة بتاريخ 12/10/2008 بعنوان: (أسئلة التحرّش ومفارقاته): إن الاستطلاعات والبحوث تشير إلى أن أكثر من 80 في المئة من المصريات معرّضات للتحرش، أكثر من 50 في المئة بصورة شبه يومية.. وغالبيتهن محجبات يخرجن من البيت مهيّئات للنظرات التحقيرية والألفاظ الغريزية واللّمس الجارح وتمزيق الثياب وانتهاك الجسد.
وقد وجد المفكر هشام شرابي أن عدم حل المشكلة الجنسية يعتبر من أهم عوامل تخلف مجتمعاتنا العربية.. وأن إعطاء الحق للإنسان في التمتع بالحياة الجنسية كيفما شاء هو حق شخصي وأمر ضروري، كي يستطيع الفرد تجاوز هذه العقد، ذلك أن الدافع الجنسي لا يمكن تجنبه وهو دافع فطري، وبالتالي عدم وجود علاقات جنسية واجتماعية وسياسية سليمة في المجتمع هو ما يكرس التخلف في المجالات ويزيد من حدة الانفلات الجنسي.
التحرش في المنزل
لعل الأرقام التي تتحدث عن هذا الموضوع أكثر من خطيرة, وهنا لا نتكلم عن حالات الاغتصاب أو غيرها، بل عن التحرش فقط.. وهناك من الباحثين من يرجع الموضوع إلى ابتعاد الناس عن الدين، وهو رأي يميل إليه أصحاب الرؤى الدينية في كل زمان ومكان.. لكن الحقيقة أن هذا الرأي غير دقيق تماماً، فالمجتمع المتدين هو مجتمع يخرج المرأة من حسابات الحرية الشخصية أو الوجود الحقيقي.. فهي دائماً أقل من الذكر وهو وصي عليها.. ولكنها قد تتعرض للتحرش في المنزل من خلال أولاد العم والخال وأحياناً الأخوة أنفسهم!.. وقد تضطر للسكوت عن ذلك خشية العقاب والتأنيب أو "الفضيحة".. هذا من جهة، ومن جهة أخرى فإن المسألة لا تحل من خلال حشر المرأة في المنزل.. لأنها بحاجة إلى الذهاب للعمل ومشاركة الرجل تأمين حاجيات أسرتهما المنزلية.. وهناك الجامعة والمدرسة والسوق.. وبالتالي حكماً ستلتقي بالرجل.
موضوع جنسي!
ولأن الأمر كذلك فإن التربية الدينية لا يجب أن تنطلق من تحجيب وتحجيم المرأة أو منعها من الخروج من المنزل كما يفعل معظم الآباء حين يعلمون أن بناتهم يتعرضن للتحرش، بل يجب طرح موضوع التحرش للنقاش وعدم تحميلها المسؤولية وتقديم أفكار جدية تتجاوز من خلالها ذاتياً مشكلتها. وبالتالي ليست المشكلة في الابتعاد عن الدين أو في العودة إليه.. بل في أن مجتمعاتنا أصبحت بلا عمل وبلا تعليم.. وحتى بلا مستقبل حقيقي.. ولذلك نرى هذه الظاهرة بارزة ومنتشرة. لا شك أن هناك أسباباً عديدة للتحرش ومنها جديد تماماً وهو محاولات المرأة ذاتها للتحرش، لكن في المقابل ثمة الكثير من الطرق والوسائل للتخلص منه، ولا سيما تأمين العمل والثقافة الجنسية والارتقاء بمجتمعنا سياسياً واجتماعياً وتعليماً. لكن لا يمكن التخلص منه مطلقاً ولا وضع حلول حاسمة كذلك, وبالتالي الممكن فقط هو الحدّ من التحرش.
هذا الرأي ينطلق من كون العمل لن يُؤمن لجميع الناس، كما أن هناك نظرة المجتمع للمرأة وموقف المجتمع الذكوري منها في ظل تنامي المدّ الديني بالمفهوم الطقسي الشكلاني، لا القيمي الأخلاقي.. كل ذلك يزيد من معاناة المرأة في الخروج إلى العمل أو الجامعة أو المدرسة أو السوق.. ويأتي الكثير من وسائل الإعلام ليقدمها على أنها موضوع جنسي فقط.
سيريا لايت ـ عمّار ديّوب
No comments:
Post a Comment